تمهيد
في مقالة ترجمتُها لجورج أورويل عام 2019، بعنوان: «حربٌ بلا رصاص»، يجادل أورويل أنَّ كرة القدم تؤدي إلى إلهاب مشاعر الكراهية بين الشعوب لا إلى زيادة التآخي بينها؛ إذ يزعم مناصرو هذه الفكرة أنَّ الشعوب إذا تلاقت في الملعب لم تتلقَ في ساحة الحرب. ويلاحظ أورويل أن الأمم حديثة العهد بالأفكار القومية والوطنية هي الأكثر ميلًا إلى عدِّ المباريات الرياضية مجالًا من مجالات الكفاح التي يتوقَّف عليها شرف الأمة.
قلتُ: لا يُتَصوَّر أن يشجع الأمريكي منتخب إنكلترا في كأس العالم لوحدة التاريخ واللغة والمذهب، ولا أن يُشجع الإنكليزي أي منتخب يواجه ألمانيا لما في تاريخ الدولتيْن من مذابح وحروب تتقزَّم إلى جانبها حروب العالم أجمع. في حين نجد أن مواطني الدول الواقعة تحت سحرِ المشاعر القومية تتعامل مع المباريات كأنها مُنازلات عظمى تتوقف عليها مصائر الأمم. في نهائي كأس العالم، كثير من مشجعي هذه الدول كان يُناوئ أحد الفريقيْن لأسباب لا تمتُّ للرياضة بصلة؛ إما سياسية أو دينية أو تاريخية، حقيقة أو مُتخيَّلة.
أمر ما لم يستفض فيه أورويل، لأنه لم يكن متأصِّلًا في الرياضة في زمانه، هو: الربح المالي. إذ بمرور الوقت، أصبحت كرة القدم صناعةً ضخمةً تُدرُّ مليارات الدولارات، ولذا صار هناك دافع مالي للزجِّ بالسياسة والديانة والقومية فيها؛ لما لهذا من أثر في تهييج عواطف المشاهدين ودفعهم لتتبَّع المباريات والاشتراك في خدمات البث، مما يزيد من مشاهدي الإعلانات. بل إن هذا يجذب من ليس من مشاهدي الرياضة (من أهل العلماء والأدباء والدين) للمشاهدة، لما يرونه من رمزية عظيمة في انتصار الأمة والدين وإغاضة العِدَى (بركلات الترجيح).
قبل 12 سنة، عندما أُعلنَ فوزُ قطر بتنظيم كأس العالم، كتبت تدوينةً فيها: «هذه هي اللحظة العربية الأمجَد منذ حرب أكتوبر». الآن، وقد عجمتني السنون وعلمتني الأيام، لم أعد أرى فيها لحظةً عربيةً مجيدةً (بل قد تطوَّر فهمي أيضًا لحرب أكتوبر، وصرت أُميِّزُ بين الحقيقة التاريخية والدعاية السياسية).